الجمعة، 28 فبراير 2020

نظرة. يوسف ادريس




كانَ غريبًا أنْ تسألَ طفلة صغيرة مثلُها إنسانًا كبيرًا مثلي لا تعرِفه في بساطة وبراءَةٍ أنْ يُعَدِّل من وَضْعِ ما تحمِلُه، وكانَ ما تحمِلُه معقَّدًا حقًّا ففوقَ رأسِها تستقرّ " صِينيَّة بطَاطِس بالفُرْن "، وفوق هذه الصِّينيَّة الصغيرة يَسْتَوِى حَوْض واسع  مفروش بالفطائِر المخبوزة، وكانَ الحوض قد انزلق رَغْم قَبْضَتِها الدقيقة التي اسْتَماتَتْ عليه حتَّى أصبحَ ما تحملُه كلُّه مهدَّدًا بالسُّقوط  .
لَمْ تَطُلْ دهشَتِي وأنا أُحَدِّقُ في الطفلةِ الصغيرةِ الحَيْرَى، وأسرَعْتُ لإنقاذِ الحِمْلِ ونجحْتُ أخيراً في تثبيتِ الحِمْلِ، وزيادةً في الاِطْمِئنَان، نَصَحْتُها أن تعودَ إلى الفُرْن، وكانَ قريباً، حيثُ تترك الصاج وتعود فتأخذُه.
ولستُ أدرِى ما دارَ في رأسِها فما كنتُ أَرَى لها رأسًا وقد حَجبَهُ الحِمْلُ. كلُّ ما حَدثَ أنَّها انتظرتْ قليلاً لتتأكَّدَ مِنْ قبضتِها ثم مضَتْ وهي تُغَمْغِمُ بكلامٍ كثيرٍ لم تَلْتِقِطْ أُذُنِي منه إلاَّ كَلِمَة "سِتِّي".
ولَمْ أحَوِّلْ عينَيَّ عنها وهي تخترقُ الشارعَ العريضَ المزدَحِمَ بالسياراتِ، ولا عنْ ثوبِها القديمِ الواسعِ المُهَلْهَلِ الذي يشبِه قطعةَ القماش التي ينظَّف بها الفُرن، أو حتَّى عن رجلَيْها اللتَيْنِ كانَتا تطلان من ذيلِهِ المُمَزَّق كمِسمارَيْن رفيعَيْن ورَاقبْتُها في عَجب وهى تُنْشِبُ قدَمَيْها العاريتَيْنِ كمخَالبِ الكتْكُوتِ في الأَرْضِ، وتهتزُّ وهى تتحرَّك ثم تنظُر هُنَا وهُنَاكَ بالفَتحات الصغيرة الدّاكنة السوداء في وَجْهِها، وتخطُو خُطوات ثابتة قليلة وقد تتمايَلُ بَعْض الشَّيء، ولكنَّها سُرْعان ما تَسْتأنِفُ المضي.  رَاقبْتُها طويلاً حتى امتصتني كلُّ دقيقة من حَركاتِها، فقد كُنْتُ أتوقَّع في كلِّ ثانية أن تَحْدُث الكارثة. وأخيراً استطاعَت الخادمة الطفلة أن تخترِق الشارعَ المزدحِم في بُطْء كحكمةِ الكبار.
 واستأنَفتْ سيرَها على الجانب الآخَر، وقبلَ أن تختفِى شاهَدْتُها تتوقَّف ولا تتحرَّك. وكادَتْ عربةٌ تدهمني وأنَا أُسْرِعُ لإنقاذِها. وحينَ وصلْتُ كانَ كلّ شيء علَى ما يُرام و الحوض و الصينية على أتم اعتدال، أمَّا هيَ فكانَتْ واقِفَةً في ثباتٍ تتفَرَّجُ ووَجْهُها المُنكمِشُ الأسمَرُ يتابعُ كرَةً منَ المَطَّاط يتقاذَفُها أطفالٌ في مثلِ حَجْمِها، وأكبَرَ منها، وهُمْ يُهَلِّلونَ ويَصْرُخونَ ويَضْحَكُونَ، ولَمْ تلحَظْنِي، ولم تتوقَّفْ كثيرًا، فمِنْ جديدٍ راحَتْ مخالِبُها الدقيقةُ تمضِي بها، وقبلَ أن تنحرفَ استدارَتْ على مَهَلٍ، واستدارَ الحِمْلُ معَها، وألقَتْ على الكُرَةِ والأطفالِ نظْرَةً طويلةً، ثمَّ ابتَلَعَتْها الحارَّةُ .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق