الأربعاء، 1 أبريل 2020

ما هي الحداثة؟

يحتل مفهوم الحداثة  Modernity  في الفكر المعاصر مكانا بارزا، فهو يشير بوجه عام الى سيرورة الاشياء بعد ان كان يشير الى جوهرها، ويفرض صورة جديدة للانسان والعقل والهوية، تتناقض جذريا مع ما كان سائدا في القرون الوسطى.
وبالرغم من اهمية هذا المفهوم وشيوعه في الفكر المعاصر، الا انه اكثر التباسا وتعقيدا لما ينطوي عليه من غموض وارتبارطه بحقول معرفية عديدة واستخدامه في مجالات مختلفة وتوازي معناه مع مسيرة الحضارة الغربية الحديثة، التي افرزت اشكاليات رافقت الحداثة وما بعدها، وكذلك تعدد ابعاده ومدلولاته وشموليته لمستويات من الوجود الانساني، العلمية والتقنية والاقتصادية والسياسية والادبية والفنية والفلسفية والتداخل فيما بينها.
والحداثة هي نقيض القديم والتقليدي. فهي ليست مذهبا سياسيا او تربويا او نظاما ثقافيا واجتماعيا فحسب، بل هي حركة نهوض وتطوير وابداع هدفها تغيير انماط التفكير والعمل والسلوك، وهي حركة تنويرية عقلانية مستمرة هدفها تبديل النظرة الجامدة الى الاشياء والكون والحياة الى نظرة اكثر تفاؤلا وحيوية.

واذا كانت الحداثة بنية فكرية جامعة لعدد كبير من المعاني والسمات والمباديء الحضارية المشتركة التي تشمل الوجود الانساني، فان التحديث Modernization  له مدلول تاريخي لا يشير الى السمات الحضارية المشتركة، وانما الى دينامية التحولات البنيوية ومستوياتها. فابتداء من القرن السادس عشر حدثت في اوربا تحولات بنيوية وحركات اجتماعية واقتصادية ودينية وسياسية اجتاحت اوربا، رافقها استكشافات جغرافية وفتوحات استعمارية، وفي ذات الوقت، ثورة علمية تقنية رافقت الثورة الصناعية، التي فجرت في نهاية القرن التاسع عشر الثورة الفرنسية والثورة القومية- البرجوازية في اوربا.
ان هذه التحولات البنيوية التي تداخلت بعضها مع البعض الآخر، في حركة جدلية كانت تصب في مجرى واحد هو مسار الحداثة.
منهجيا، ليس من السهل اخضاع الحداثة الى القياس، لانها لا تكشف عن نفسها في موضوعات محددة وملموسة ويمكن قياسها واخضاعها للتجربة، وعلى المرء ان يستقرئ أسس الحداثة ومقوماتها بوصفها عمليات تراكمية وتحولات بنيوية مادية ومعنوية.
وبايجاز شديد يمكننا فهم الحداثة باعتبارها المعطى الدوري والتحول المتسلسل في بنيات الانتاج والمعرفة والثقافة والاستطاعة التقنية والتي تمثلت بثلاث تحولات كبرى هيأت لقيامها وهي:
أولا - تقوم على سلوك ذي نزعة انتاجية واسعة تتخطى الحدود التقليدية لمنظومة العمل والانتاج القديمة. وبهذا فهي مرادفة للرأسمالية، كنظام اقتصادي وبيروقراطي رشيد للمشروع الاقتصادي الحر الذي يقوم على تقسيم العمل الاجتماعي والتخصص.
وثانيا - تقوم على تقدم علمي- تقني مستمر ظهر في العلم التجريبي والطباعة والتعليم والاعلام والاتصال وغيرها.
وثالثا- نهضة فكرية واجتماعية - سياسية في دوائر المجتمع والفرد، ادت الى الاعتراف بقدرات الانسان الذهنية وحددت حقوقه وواجباته.
وباختصار، فالحداثة تعني مجمل التفاعلات التراكمية التي يدعم بعضها البعض، وان هذه التغيرات الحاسمة ذات الوتائر السريعة انتجت طفرة حقيقية في التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، تطورت بموجبها قوى العلم والتقنية والانتاج تطورا واسعا بحيث احدثت قطيعة بين الانسان وماضيه وجعلت منه سيد الطبيعة ومالكها عن طريق ضبط علمي -عقلاني لافعاله. ولكن منذ مطلع القرن الماضي بوجه خاص تحولت العلاقة بين العلم والتقنية لتصبح التقنية   العلم المطبق  كما اصبحت الالة، بل وسيطرتها هي السمة الابرز في الغرب، بمعنى الاهمية المتعاظمة التي تمثلها التقنية في العالم بحيث لم يعد هناك انسان وطبيعة وانما هناك أنا والعالم، فيما هذه الأنا متضمنة في بيئة انسانية- تقنية، وهو ما جعل الانسان مركزا للكون ومصدرا للقيم. وبهذه النقلة النوعية الشمولية شكلت الحداثة قطيعة مع التراث ومع الماضي، ولكن لا لنبذه وانما لاحتوائه وادماجه في مخاضها المتجدد دوما.

مفهوم الحداثة

 كان هيغل أول فيلسوف وضع مفهوما واضحا للحداثة واستخدمه في سياقات تاريخية للدلالة على حقبة زمنية معينة، حيث ذكر بان الحداثة بدأت مع عصر التنوير، بفعل اولئك الذين اظهروا وعيا وبصيرة، باعتبار ان هذا العصر  حد فاصل  و مرحلة نهائية من التاريخ ، في هذا العالم الذي هو عالمنا وحاضرا يفهم على انه قيمومة الزمن الحاضر، انطلاقا من أفق   الازمنة الجديدة التي تشكل تجددا مستمرا.
كما وضع هيغل مدلولا للعلاقة الداخلية القائمة بين الحداثة والعقلانية، وهو مدلول امتد بذاته حتى وصل الى ماكس فيبر. وقد استخدم هيغل مفهوم الحداثة ضمن اطر وسياقات تاريخية للدلالة على الازمنة الحديثة وهو بهذا مفهوم زمني يعبر عن القناعة بالمستقبل الذي سبق وبدأ، والزمن المعاش المرهون بالمستقبل، والمنفتح على الجديد الآتي.
منذ ذلك التاريخ ابتدأ تصوير التاريخ كعملية تفاعل منسقة وخلاقة للمشاكل ومن هذه اللحظة اصبح الزمن معاشا في مواجهة القضايا التي تطرح نفسها كسلطة نادرة، وبقول آخركزمن يلاحقنا واذا جاز لنا ان نحدد تاريخا موجزا وسريعا لمفهوم الحداثة، فيمكننا القول بان المفهوم يعود الى بداية القرن التاسع عشر فقد ذكر هيغل بان الازمنة الحديثة تخص ثلاثة قرون تمت فيها تحولات هامة وهي: 
1- اكتشاف العالم الجديد
2- عصر النهضة
3- عصر التنوير
هذه التحولات الكبرى، التي بدأت منذ القرن السادس عشر، شكلت عتبة تاريخية هامة وانتقالا من القرون الوسطى الى الازمنة الحديثة، وهي دالة على حقبة جديدة تشير الى ولادة عصر ومستقبل جديد.
منذ هذه الحقبة ابتدأ تصور التاريخ كتفاعلية متسقة خلاقة، واصبح الزمن معاشا في مواجهة القضايا التي تطرح نفسها، او كزمن يلاحقنا. ان روح العصر  Zeitgeist هو احد المفاهيم الجديدة التي ابتدعها هيغل، التي تسم الحاضر كلحظة عابرة تستهلك نفسها في وعي التاريخ، وفي انتظار مستقبل مختلف.
يقول هيغل،  ان زمننا هو زمن ولادة وزمن انتقال الى حقبة جديدة. وان العالم الجديد ينفتح على المستقبل ويولد حقبة تاريخية جديدة تستمر في كل لحظة من لحظات الحاضر الذي يولد شيئا جديدا . وان الوعي التاريخي بالحداثة يتضمن تحديدا للحدود بين الزمن القائم والزمن الجديد، وتصبح الحقبة المعاصرة بداية للزمن الجديد الذي يبدأ مع عصر التنوير، ومع الثورة الفرنسية، باعتباره حدا فاصلا يكون قطيعة بين الازمنة الحديثة والماضي. كما شكلت القطيعة انفصاما وتوقفا وازاحة له من جهة، وثورة معرفية كونت تحولا مفاجئا وحادا في نظام المفاهيم والاشياء والعلاقات الاجتماعية من جهة اخرى. وبهذا فالحداثة ليست قطيعة مع الماضي فحسب بل هي الغاء له وتوليد حركة طليعية متقدمة.
وبطلوع القرن الثامن عشر صاحب الحداثة مفاهيم جديدة ذات دلالات ما زالت تحتفظ بجدتها واهميتها حتى اليوم كالحرية والعقلانية والنقد والتقدم الاجتماعي وغيرها.

مبدأ الذاتية

 ويشكل مبدأ الذاتية، القاعدة الاساسية للحداثة في المجال الفلسفي الذي يعني أولوية الذات وانتصارها، حيث اصبح الانسان الحديث يرى صورته في مرآة يتمثل العالم من خلالها، واخذ يدرك نفسه كذات مستقلة ومتميزة عن الطبيعة، وهو ما دفع الانسان الى السيطرة على الطبيعة واخضاعها لمشيئته. كما اصبح الانسان يستمد يقينه من ذاته، وليس من عقيدة او سلطة، غير سلطة ذاته. وليس كما كان عليه الامر في القرون الوسطى.
وبحسب هيغل، فان الحداثة شكلت ارتدادا الى الذات وكونت بنية علاقة مع الذات دعاها هيغل بـ  الذاتية  او الآنية ، أي حرية الذات، التي هي بشكل عام مبدأ العالم (الازمنة الحديثة) وشرحها بـ  الحرية  حيث قال:  ان مكون اهمية وعظمة عصرنا هو الاعتراف بالحرية  ، ووصفها بالروح، وحقيقة كونها بذاتها .
وكان ديكارت اول من أسس فكرة الحداثة الفلسفية بعد ان وضع مبدأ الذاتية (الكوجيتو): أنا افكر اذن أنا موجود  كاساس للحقيقة وكقيمة مطلقة- وخط فاصل بين عالم الآلهة القديم وعالم الانسان الحديث- وجعله مركز الكون.
اما لا بتننز (1646- 1716) فهو أول من اسس الحداثة الفلسفية على مبدأ العقلانية، حيث قال ان لكل شيء سبب معقول  وبهذه المقولة تفتحت ابواب العالم الحديث التي ساعدت الانسان على معرفة اسرار الكون والحياة والموجودات وكونت بديلا علميا وعقلانيا لسلطة الميتافيزيقيا القديمة. ومذاك اصبح العلم هو الموجه الذي يقود الفلسفة الحديثة وظهور مفهوم  الكلية  الذي يعني النظرة الشمولية العامة للاشياء.
كما ان العلم المموضع الذي اخذ يفك سحر الطبيعة، حرر في ذات الوقت، الذات العارفة، واصبحت الحرية الذاتية للفرد التي قامت على هذه التصورات، تؤكد على حق الفرد في التمييز بين الافعال المتوقعة منه، فاخذ يلاحق الغايات ولكن بشرط انسجامها مع راحة الآخرين. وبذلك اكتسبت الارادة الذاتية استقلالا طبقا للقوانين العامة. وهكذا تجسدت الحداثة والعقيدة والدولة والعلم والفن والاخلاق في مبدأ الذاتية.

عصر التنوير والحداثة

 والواقع فان عصر التنوير هو مفتاح الحداثة وبابها الى العالم، على رغم ان اصول الحداثة تعود الى الفكر والفلسفة الاغريقية والديانة المسيحية والفلسفة الاسلامية العقلانية. وكما قلنا سابقا، فان كانت كان اول من صاغ مفهوما للتنوير عندما قال  ان التنوير هو خروج الانسان عن قصوره الذي اقترفه بحق نفسه وعجزه عن استخدام عقله الا بتوجيه من انسان آخر .ونتيجة لافكار التنوير ومبادئه تطورت الفلسفة العقلانية النقدية وفكرة التقدم الاجتماعي وحقوق الانسان.
غير ان الصرح المعرفي القويم للحداثة، الذي ظهر في عصر التنوير و ظل ثابتا اوشبه ثابت اكثر من قرنين، لم ينأ عن النقد والتجريح، بل اكثر من ذلك، اخذ البعض بتقويض مشروع الحداثة وصرحه الفلسفي القويم الذي قام على العقلانية والتقدم الاجتماعي والنقد. فمنذ بداية القرن العشرين لم تعد الحداثة تصمد امام نقد الفاعلين الاجتماعيين من رواد ما بعد الحداثة حيث يقول آلان تورين:  حاولت تهميشه حين قامت بتنصيب عدد من الاوهام: العقلانية وغائية التاريخ والتقدم والآيديولوجيا، التي انتجت ما يدعى  بالحكايات التفسيرية الكبرى  لعصر التنوير.
لقد رافقت هذه التحولات المهمة سمات فكرية وفلسفية كبرى في مقدمتها اهمية العقل والعقلانية، حيث غدا العقل الحسابي والنقدي معيار كل معرفة وكذلك مرجعها الحاسم، كما اصبح العقل عقلا أداتيا، وبذلك استقلت البنيات المعرفية عن الاهداف التي رسمت لها وقامت من اجلها واصبحت لها قوة فاعلة ودور حاسم في اصدار القرارات. وبهذا اصبحت شكلا جديدا من السلطة اطلق عليها هابرماس  السلطة التقنية  التي هي في الوقت ذاته وسيلة من وسائل الضبط والاحباط لما يرافقها من ايديولوجية تكنوقراطية تكون الاساس الذي يقوم عليه ترشيد السلوك.

ماكس فيبر والحداثة

 ويرجع ماكس فيبر، عالم الاجتماع الاقتصادي الالماني المعروف، هذه التحولات التي قامت على طريق العقلنة الى خاصية من خصوصيات الغرب، وذلك بسبب وجود رابط داخلي، وليس عرضيا، يكُون هذه الصيرورة العقلانية التي طورت العقل التجريبي الحديث والفنون والتمايز حول المشروع الرأسمالي الحر والجهاز البيوقراطي للدولة، فهما يتداخلان ويتشابكان معا في وجهة نظر وظيفية، كما يفسر هذه التحولات بكونها انواعا من الانشطة العقلية (اقتصادية وادارية)، التي تتجه نحو غايات محددة، بعد ان تلاشت اشكال الحياة التقليدية لما قبل الحداثة، والانتقال من النموذج الصناعي البسيط الى النموذج الرأسمالي المعقد. وذلك بسبب السلوك ذي النزعة الانتاجية الذي عمل على تسارع نمو الرأسمالية، واظهر، كما يقول فيبر،  البحث عن النجوع  الذي حرضته على النجاح الفردي، وتراكم الثروة التي يجب ان تكون واجبا ينذر الانسان نفسه لخدمتها عن طريق الزهد والتقشف والادخار والشعور بالمسؤلية لمضاعفتها بواسطة العمل الدؤوب. لقد كون هذا الاسلوب العقلاني الرشيد في الحياة، ذهنية اقتصادية وجدت مبدأها الاخلاقي في روح الرأسمالية.
لقد حظيت اراء ماكس فيبر حول نمو العقلانية والبيروقراطية في الرأسمالية باهتمام كبير واثارت مزيدا من المناقشة والجدل، بعد ان تحقق ما تنبأ به من توسيع رهيب وملحوظ في العقلانية والبيروقراطية مما لا يمكن تجاهله او نكرانه. فهي اصبحت من الملامح الاساسية التي تطبع المجتمعات الصناعية المتقدمة، وبخاصة الرأسمالية. وهذه انما تثير من جديد تساؤلات عدة حول القضايا التي طرحها ماكس فيبر في بداية القرن الماضي وتتمثل في التطور الهائل في حجم وكثافة وتعقد الاجهزة البيروقراطية وتعقد الطرق والاساليب التكنولوجية وتعاظم قدرة التنظيمات العقلانية الضخمة التي اصبحت اليوم تتحكم في الدول والشعوب وتسيطر عليها من خلال الاشكال المعقدة لفنون الانتاج والتسويق ووسائل الدعاية والاعلان والاتصال المختلفة، وتحولها الى مجتمعات استهلاكية تنتج بضائع اكثر من الحاجة. وبهذا تنتج الاجهزة التكنولوجية والفئات المسيطرة عليها تفوقا غير اعتيادي على الناس بحيث يصبح الفرد مقابل هذه القوة الاقتصادية ملغيا تماما. وبالغائها الفرد تُصعد هذه القوة عنف المجتمع ضد الطبيعة بقوة اكبر، ويختفي الفرد من الجهاز التكنولوجي الذي يخدمه.

المصادر:

1- Habermas, Jurgen, Der Philosophische Diskurs der Moderne, Frankfurt, 1991,
2- Habermas,Jurgen, Tecknick und Wissenschaft als Ideologie, Suhrkamp, Frankfurt, 1969.  Horkheimer Und Aderno, Dialektik der Aufklaerung,Frankfurt,196
3- 4- ابراهيم الحيدري ازمة الحضارة الغربية- أزمة حداثة وما بعد الحداثة، في كتاب  الحضارة الانسانية بين التصور الديني والنظريات الوضعية  الجزء الأول، لندن 1994
5- ابراهيم الحيدري، جدلية الحوار حول اطروحة ماكس فيبر الاخلاق البرتستانتية وروح الرأسمالية ، مجلة العلوم الاجتماعية، المجلد الثامن عشر، الكويت 1990
6- محمد الشيخ ويوسف الطائري، مقاربات في الحداثة وما بعد الحداثة، ( اعداد وتعريب)، بيروت 1996
7- آلان تورين، نقد الحداثة، (ترجمة)، بيروت 1997
د إبراهيم الحيدري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق