ليس لنا مدرسة أعظم من التاريخ الطبيعي، ولا
برهان أقوى من الاستقراء، من تتبَّعهما يرى أنَّ الإنسان عاش دهراً طويلاً في حالة
طبيعية تسمَّى "دور الافتراس"...ثم ترقَّى الكثير من الإنسان إلى الحالة
البدوية التي تسمّى "دور الاقتناء": فكان عشائر وقبائل... ثمَّ انتقل ...
قسم كبير من الإنسان إلى المعيشة الحضرية : فسكن القرى يستنبت الأرض الخصبة في
معاشه، فأخصب...
ثمَّ ترقّى قسم من الإنسان إلى التصرُّف إمّا
في المادة وهم الصُّناع، وإمَّا في النظريات وهم أهل المعارف والعلوم. وهؤلاء
المتصرِّفون هم سكان المدن الذين هم إنْ سجنوا أجسامهم بين الجدران، فقد أطلقوا
عقولهم في الأكوان، و توسَّعوا في الرِّزق كما توسَّعوا في الحاجات، ولكنَّ أكثرهم
لم يهتدوا حتى الآن للطريق المثلى في سياسة الجمعيات الكبرى. وهذا هو سبب تنوُّع
أشكال الحكومات وعدم استقرار أمَّةٍ على شكل مُرضٍ عام. ..
وتقرير شكل الحكومة هو أعظم وأقدم مشكلة في
البشر، وهو المعترك الأكبر لأفكار الباحثين... فقرر بعض قواعد أساسية في هذا الباب
تضافر عليها العقل والتجريب، وحصحص فيها الحقّ اليقين، فصارت تُعَدُّ من المقررات
الاجتماعية عند الأمم المترقية، ولا يعارض ذلك كون الأمم لم تزل أيضاً منقسمة إلى
أحزاب سياسية يختلفون شيعاً؛ لأنَّ اختلافهم هو في وجوه تطبيق تلك القواعد وفروعها
على أحوالهم الخصوصية.
وهذه القواعد التي قد صارت قضايا بديهية في
الغرب، لم تزل مجهولة أو غريبة، أو منفوراً منها في الشرق؛ لأنَّها عند الأكثرين
منهم لم تطرق سمعهم... وإنّي أطرح لتدقيق المطالعين رؤوس مسائل بعض المباحث التي
تتعلَّق بها الحياة السياسية...
طبائع الاستبداد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق