لم تكن قضية المرأة موضوعاً فكرياً حَظًي باهتمام رواد النهضة العربية فحسب
، بل تحولت إلى ذات فاعلة ساهمت في إحداث وأحداث الحركة النسوية النهضوية في
القرن التاسع عشر ، وتحول تحررها رمزاً لتحرر المجتمع الشرقي الذي كان يرزح تحت
سطوة الاستعمار والبطريركية والتقاليد ، ولم يستثنً قضيتها مثقف أو مفكر نهضوي
منذ رائد النهضة العربية الشيخ رفاعة الطهطاوي الذي تعرّف على الحياة الاجتماعية
في باريس ، ودعا إلى تعليم المرأة وتهذيبها لتعين الرجل في أعباء الحياة ، وسار
على دربه كل من: بطرس البستاني ، فرانسيس المراش ، وقاسم أمين الذي كان محطة
بارزة في حمل قضية المرأة والدعوة لتحريرها من التآخر والتقاليد.
وقد ساهمت رموز هذا التيار عملياً في دفع قضية المرأة ، ورفع شأنها بالتعليم
والعمل والدعوة إلى إصلاح قوانين الأحوال الشخصية. ونذكر من هؤلاء: د.طه حسين ،
وأحمد لطفي السيد ، وسلامة موسى ، وغيرهم. وكان للثورة المصرية سنة 1919 دوراً
بارزاً في انخراط المرأة بالعمل السياسي المباشر ، ونزع حجابها وسفورها والنزول
إلى الشارع والمشاركة بالنضال السياسي والاجتماعي.
وتعددت أوجه نشاطها ، ووسائل تحريرها ، وأساليب عملها ، فكان عملاً انتشارياً لم
يركز على جانب دون الآخر ، فانخرطت في جميع الميادين المتاحة لها للتعبير عن
ذاتها. ففي مجال التعليم انخرطت المرأة في التعليم الذي يعتبر الخطوة الأولى
الأساسية للتطور والوعي والتحرر ، والمفارقة تحفَّظَ الكثير من الإصلاحيين على
التعليم الحديث خوفاً من نتائجه الحتمية في تحرر المرأة الزائد عن الحد ، أو عما
يتصورون أنه سقف التحرر، وكان لمراسيم الإصلاح العثماني ، وإصلاحات محمد علي
باشا ، والإرساليات التبشيرية في سوريا ولبنان وفلسطين ، دور مهم في نشر التعليم
، حيث افتتحت الإرساليات التبشيرية أول مدرسة للبنات في المشرق العربي سنة 1830
في لبنان ، وتوالى إنشاء تلك المدارس في أنحاء سوريا من الإرساليات الإنجليزية
والفرنسية والأمريكية ، وفي سنة 1847 افتتحت أول مدرسة عربية مختلطة في بيروت ،
وضمت حينها 25 طالباً وسبع طالبات.
وشهدت مصر نهضة تعليمية وصناعية هائلة في زمن محمد علي باشا ، تم التراجع عنها
في عهد حفيده الرجعي عباس باشا الذي أغلق المدارس ، وخاصة مدارس البنات ، وبقي
الحال كذلك حتى تولى سعيد باشا الحكم ومن بعده ابنه إسماعيل باشا الذي جاهد
لتحويل مصر إلى قطعة من أوروبا ، فأعاد تشجيع المدارس والصحافة والحركة الأدبية
والمسرحية ، وأولى الثقافة الفرنسية أهمية خاصة حتى أصبحت رمزاً للتمدن والرقي
والارستقراطية ، ونافست الثقافة واللغة الإنجليزية الفئات المرتبطة بها: كالدروز
والبروتستانت ، والسنة ، وتمثلت النساء العربيات في ذلك العهد تلك الثقافات
واللغات في المدارس المتوسطة والعليا ، كالكلية السورية(الجامعة الأمريكية) التي
فتحت أبوابها للنساء ، وأصبحت جامعة مختلطة منذ سنة 1921.
وفي الفترة نفسها دخلت المرأة المصرية سلك التعليم ، فعلمت وتعلمت ودخلت الجامعة
المصرية الأهلية بالسر ، وبقي الوضع كذلك حتى افتضح الأمر عند تخريج الطالبات ،
ورغم الضجة التي قامت بها العناصر الرجعية إلا أن وصولها للتعليم الجامعي أصبح
حقاً مكتسباً لا يمكن التراجع عنه.
ولم تتوقف مكاسب المرأة عند التعليم المدرسي فحسب ، فقد أكملت خالدة أديب
تعليمها الجامعي ، وكانت أول امرأة شرقية بالعصر الحديث تحمل شهادة البكالوريوس
سنة 1901 ، وناضلت كمرأة تركية في الجمعيات التحررية ، وشاركت في الانقلاب
العثماني وأرسلها الانقلابيون الجدد إلى لبنان للإشراف على التعليم العلماني
الحديث في لبنان وسوريا ، إلا أنها لم تحرز النجاح المطلوب بسبب سياسة التتريك ،
ومنافسة الإرساليات الأجنبية ، كما أن شدة تحررها بلباسها وتبرجها وسفورها لم
تحقق المطلوب ، وعادت إلى تركيا وتسلًّمت في عهد مصطفى كمال أتاتورك منصباً
وزارياً ، فكانت أول وزيرة في العالم الإسلامي والشرقي الحديث.
وبقيت ساحة التعليم حكراً على الإرساليات الأجنبية حتى تأسست المدارس الخاصة
بالطوائف اللبنانية ، ومنها ظهور "جمعية المقاصد الإسلامية" التي لعبت
دوراً هائلاً في تعليم الذكور والإناث.
وفي سنة 1882 كان في بيروت وحدها 36 مدرسة للبنات ، تضم 5571 طالبة.
وانتشرت المدارس في فلسطين ، ففي القدس ، كان عدد مدارس البنات فقط 14 مدرسة
وفيها 1086 طالبة ، ومن تلك المدارس "المدرسة الرشيدية الإسلامية"
التي تأسست سنة 1868.
أما نابلس فكان فيها 143 طالبة ، وعلى مسـتوى بلاد الشام كان هناك 123 مدرسة تضم
11387 طالبة.
وكان من أهم مؤشرات التحرر والتعليم سفر المرأة العربية للخارج طلباً للتعليم
العالي ، فنالت أنس بركات شهادة البكالوريوس في الطب والجراحة من جامعة ديترويت
الأمريكية سنة 1905 ، كما نالت نسيبة صبحي شهادة الطب من جامعة لندن في نفس
الفترة ، وكانتا معاً أول امرأتين تمارسان الطب في المشرق العربي.
وعلى صعيد الصحافة ، أصدرت الناشطة الاجتماعية هند رستم نوفل أول مجلة نسائية في
مصر سنة 1892 باسم "مجلة الفتاة" ، واقتصرت الكتابة فيها على الأقلام
النسائية ، وفي لبنان أصدرت الكسندرا ملتيادي أول مجلة نسائية سنة 1898 باسم
"أنيسة الجليس" في بيروت ، وتوالت الدوريات والمجلات النسائية في مصر
ولبنان وسوريا ، حيث أصدرت الأديبة والناشطة الاجتماعية ماري عجمي مجلتها
النسائية الأولى في دمشق باسم "مجلة العروس" سنة 1911.
ودارت على صفحات تلك المجلات الحوارات والمناقشات والردود الخاصة والمطارحات
الأدبية والشعرية والدعوات والمقالات التحررية لنصرة قضية المرأة.
وعكس العمل الصحفي النسـائي طريقة المرأة في التعبير عن ذاتها وعن مشكلاتها
الاجتماعية وعن مسـتواها الأدبي والثقافي ، ونالت قضايا التعليم والتربية
والحجاب والاختلاط والتعليم الأجنبي وحقوق المرأة الاهتمام الأكبر من قًبَل
النساء الصحفيات والأديبات.
وكانت الصالونات النسائية بمثابة منتديات وملتقيات الثقافة والأدب ، وقد انتقلت
من فرنسا والغرب إلى المشرق العربي ، وكانت تعقد أسبوعياً في منازل الأديبات
والناشطات العربيات ، ومنها ما كان يراعي التقاليد والاحتجاب وعدم الاختلاط مع
الرجال ، ومنها الصالونات التي اخترقت أو تجاهلت تلك المحرمات والتقاليد ،
واستقبلت الرجال وجلست معهم وجهاً لوجه ، وأدارت الحوارات المباشرة معهم. وقد
عكست تلك المناقشات اهتمام النخبة من الرجال والنساء وطريقة تفكيرهم ومدى
اهتمامهم بقضايا عصرهم ومنها: 1 - صالون الأميرة نازلي (1868 - 1914) في مصر ،
وكان ملتقى الأدباء والمفكرين من أمثال: محمد عبده ولطفي السيد وقاسم أمين
وغيرهم.
2 - صالون الشاعرة مريانا المرّاش ، وهي أخت الدكتور والمفكر النهضوي فرانسيس
المراش الحلبي صاحب الرواية الفكرية "غابة الحق" ، وكانت مريانا قد
زارت باريس ونقلت مشاهداتها لنساء الشرق على صفحات مجلتها وفي صالونها الأدبي.
3 - صالونات زينب فواز وماري عجمي في دمشق.
4 - صالون الأميرة الكسندرا في مصر من سنة 1894 - 1900 ، وقد تردد على صالونها
الكثير من الأدباء المشهورين ومنهم: ولي الدين يكن ولويس الصابونجي وإسماعيل
صبري وأحمد زكي ومصطفى لطفي المنفلوطي.
5 - صالون مي زيادة وهو أشهر تلك الصالونات ، وقد استمر من سنة 1913 - 1933 ،
وواظب على حضوره نخبة من أعلام النهضة العربية في النصف الأول من القرن العشرين
من أمثال: طه حسـين ، ولطفي السـيد ، وأحمد شوقي ، وشبلي الشميل وعباس محمود
العقاد ، ومن النسـاء: ملك حنفي ناصيف ، وهدى شعراوي ، ونازلي الحكيم ، ولبيبة
هاشم.
6 - صالون جوليا طعمة (1880 - 1954).
7 - صالون ياقوت صرّوف ، وهي زوجة يعقوب صرّوف افتتحته سنة 1908 ، واستمر حتى
سـنة 1912 ، وغلبت على ندواتها المناقشات العلمية لتأثرها بزوجها وابن أخيه فؤاد
في مجلة المقتطف.
وظهرت الجمعيات النسائية ، التي بدأت نشاطها النسائي بالعمل الخيري الطائفي في
القرن التاسع عشر ، بسبب هيمنة الوعي الديني على الوعي الاجتماعي والقومي ،
وطبيعة الحياة الاجتماعية القائمة على الفرز الطائفي والديني بين الملل والطوائف
، ومن أولى الجمعيات النسائية اللبنانية كانت جمعية المربيات التي أسستها مريم
نصار سنة 1853 ، وجمعيات سيدات المحبة وقلب يسوع سنة 1857 ، ثم توالى إنشاء
الجمعيات النسائية في بلاد الشام ومصر. وفي مطلع القرن العشرين اتخذت تلك
الجمعيات طابعاً اجتماعياً وعملياً ، وأصبحت نشاطاً نسائياً حقيقياً ، منها باكورة
سوريا ، التي دعت إليها مريم نمر مكاريوس وياقوت صرّوف سنة 1873.
كما أسست الصحفية والأديبة لبيبة جهشان جمعية زهرة الإحسان سنة 1881 ، كما أسست
إميلي سـرقس سنة 1881 الجمعية البنفسـجية.
واستقطبت تلك الجمعيات النخبة النسائية البرجوازية الوليدة ، وعبرت عن إمكاناتها
في العمل الخيري والاجتماعي والسـياسي ، ونقل قضيتها إلى العمل الجماعي النسائي
فتعرفت على ذاتها في العلاقات العامة ، وفي الوحدة والتنظيم والتنسيق ، وهي
مهارات لا تكتسـبها المرأة إلا في العمل الجماعي والاجتماعي.
وشاركت المرأة العربية في المؤتمرات النسـوية الدولية ، وتعلمت منها الشيء
الكثير ، واضطلعت على شؤون المرأة الغربية ، وقارنت خطابها وقضيتها مع خطاب
وقضية النساء في أوروبا وأمريكا ، ومن هذه المؤتمرات انتقلت فكرة تنظيم النساء
في المشرق العربي ، وعقد المؤتمرات الدورية الموسـعة بتنظيم ومشاركة فاعلة من
التنظيمات والجمعيات النسـائية.
وكان مؤتمر شيكاغو سنة 1893 أول إطلالة للمرأة العربية على الغرب بمشاركة
الناشطة والمناضلة الاجتماعية هنا كسباني (1870 - 1898) التي بقيت هناك لثلاث
سنوات متتالية شاهدت وشاركت النساء الأمريكيات همومهن ونضالهن ، ولكنها قضت
سريعاً بمرض السل ، وأُحرق المحافظون الرجعيون كتبها وأوراقها بذريعة تلوثها
الجراثيم.
كما شاركت ياقوت بركات صرّوف في المؤتمر النسائي العام في لندن سنة 1899.
وشاركت أنس بركات في مؤتمر المتطوعات في كندا سنة 1903.
وكانت أوسع مشاركة عربية للمرأة في مؤتمر التدبير المنزلي سنة 1923 في روما ،
حيث شاركت النساء بوفود جماعية ، منها الوفد النسائي المصري وفيه هدى شعراوي
وفاطمة فهمي وإميلي عبد المسيح ونبوية موسى وسيزا نبراوي.
أما على المسـتوى المحلي ، فقد عقدت عدة مؤتمرات ولقاءات تمهيدية وتدريبية
وورشات عمل لمناقشة أوضاع النساء حتى نجحت المرأة بعقد مؤتمرها العام سنة 1928 ،
وكان أوسع وأنجح المؤتمرات النسـائية ، حيث شاركت فيه 28 جمعية نسـائية في بلاد
الشام.
لقد تعددت اتجاهات وعمل المرأة في الحقل النسائي لتوضيح قضيتها وتحررها ،
وتفاعلت مع قضاياها وقضايا المجتمع الشرقي ، وكان لنشاطها طابعاً انتشارياً تم
على جميع الأصعدة ، فكانت هي نفسها الشاعرة والصحفية والمعلمة والناشطة
الاجتماعية ، وعكس أدبها وفكرها فكرة خروجها من جسدها والتمرد على ذاتها بعيداً
عن الشروط المعرفية والمادية لنجاح تحررها الكامل والتي لم تتوفر حتى الآن.
ولكنها أسست لمستقبلها وناضلت حتى ضد ذاتها المستلَبَة التي نظرت وسوغت الأحكام
والأوضاع الرجعية ضد المرأة ، كرد مي زيادة على الأديبة المحافظة ملك حفني ناصيف
(باحثة البادية).
وتحفل ذاكرة الأدب العربي الحديث بأسماء الشاعرات والأديبات العربيات في القرن
التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ، مثل الشاعرات: وردة اليازجي ، ومريانا المراش
، و(باحثة البادية) ، وملك حفني ناصيف ، وعائشة التيمورية ، والقاصات: زينب فواز
التي أصدرت ثلاث قصص ، وفريدة عطية ، والكاتبة الكبيرة مي زيادة ، وعفيفة كرم ،
ولبيبة هاشم ، من الرعيل الأول المؤسس للأدب النسوي العربي في القرن العشرين ،
وصاحبات الخطوة الأولى في سبيل تحررها ومساواتها بالرجل وتحمل مسؤولياتها
الاجتماعية والسياسية.
ولولا الرائدات اللواتي مهدن الطريق للجيل التالي لتعذر الاسـتمرار ونضوج الخطاب
النسوي بشكل عام ، وظهور عشرات المبدعات والمناضلات العربيات من السـودانية
فاطمة إبراهيم إلى المغربية فاطمة المرنيسي.
عن جريدة الدستور الأردنية
|
جيّد
ردحذف